فصل: قال سيد قطب في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال ابن العربي: هذا حديث باطل، فأما قوله: فهو ظالم، فكلام صحيح.
وأما قوله: فلا حق له، فلا يصح.
ويحتمل أن يريد أنه على غير الحق. انتهى.
وأقول: أما كون الحديث مرسلًا، فظاهر.
وأما دعوى كونه باطلًا، فمحتاجة إلى برهان، فقد أخرجه ثلاثة من أئمة الحديث عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم كما ذكرنا، ويبعد كل البعد أن ينفق عليهم ما هو باطل، وإسناده عند ابن أبي حاتم هكذا: قال ابن أبي حاتم: حدّثنا أبيّ حدّثنا موسى بن إسماعيل حدّثنا مبارك حدّثنا الحسن فذكره.
وليس في هؤلاء كذاب ولا وضاع.
ويشهد له ما أخرجه الطبراني عن الحسن عن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من دعي إلى سلطان فلم يجب فهو ظالم لا حقّ له» انتهى.
ولا يخفاك أن قضاة العدل، وحكام الشرع الذين هم على الصفة التي قدّمنا لك قريبًا هم سلاطين الدين المترجمون عن الكتاب، والسنة، المبينون للناس ما نزل إليهم.
وأخرج ابن مردويه، عن ابن عباس قال: أتى قوم النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله لو أمرتنا أن نخرج من أموالنا لخرجنا، فأنزل الله {وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم} الآية.
وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل في الآية قال: ذلك في شأن الجهاد، قال: يأمرهم أن لا يحلفوا على شيء {طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ} قال: أمرهم أن يكون منهم طاعة معروفة للنبي صلى الله عليه وسلم من غير أن يقسموا.
وأخرج ابن المنذر، عن مجاهد: {طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ} يقول: قد عرفت طاعتهم أي: إنكم تكذبون به.
وأخرج مسلم، والترمذي، وغيرهما، عن علقمة بن وائل الحضرمي، عن أبيه قال: قدم زيد بن أسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أرأيت إن كان علينا أمراء يأخذون منا الحق، ولا يعطونا؟ قال: {فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم} وأخرج ابن جرير، وابن قانع، والطبراني عن علقمة بن وائل الحضرمي، عن سلمة بن يزيد الجعفي قال: قلت: يا رسول.
.
فذكر نحوه.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن الزبير عن جابر أنه سئل: إن كان عليّ إمام فاجر، فلقيت معه أهل ضلالة أقاتل أم لا؟ قال: قاتل أهل الضلالة أينما وجدتهم، وعلى الإمام ما حمل وعليكم ما حملتم.
وأخرج ابن أبي حاتم، وابن مردويه عن البراء في قوله: {وَعَدَ الله الذين ءامَنُواْ مِنْكُمْ} الآية.
قال: فينا نزلت، ونحن في خوف شديد.
وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم، عن أبي العالية قال: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأصحابه بمكة نحوًا من عشر سنين يدعون إلى الله وحده، وعبادته وحده لا شريك له سرًّا، وهم خائفون لا يؤمرون بالقتال، حتى أمروا بالهجرة إلى المدينة، فقدموا المدينة، فأمرهم الله بالقتال، وكانوا بها خائفين يمسون في السلاح، ويصبحون في السلاح، فغبروا بذلك ما شاء الله، ثم إن رجلًا من أصحابه قال: يا رسول الله أبد الدهر نحن خائفون هكذا؟ ما يأتي علينا يوم نأمن فيه، ونضع فيه السلاح؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لن تغبروا إلاّ يسيرًا حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبيًا ليست فيهم حديدة» فأنزل الله: {وَعَدَ الله الذين ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ في الأرض} إلى آخر الآية، فأظهر الله نبيه صلى الله عليه وسلم على جزيرة العرب، فأمنوا ووضعوا السلاح.
ثم إن الله قبض نبيه، فكانوا كذلك آمنين في إمارة أبي بكر وعمر وعثمان حتى وقعوا فيما وقعوا وكفروا النعمة، فأدخل الله عليهم الخوف الذي كان رفع عنهم، واتخذوا الحجر والشرط وغيروا فغير ما بهم.
وأخرج ابن المنذر والطبراني في الأوسط والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل والضياء في المختارة عن أبيّ بن كعب.
قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وآوتهم الأنصار رمتهم العرب عن قوس واحد، فكانوا لا يبيتون إلاّ في السلاح، ولا يصبحون إلاّ فيه، فقالوا: أترون أنا نعيش حتى نبيت آمنين مطمئنين لا نخاف إلاّ الله، فنزلت: {وَعَدَ الله الذين ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصالحات} الآية.
وأخرج عبد بن حميد، عن ابن عباس: {يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} قال: لا يخافون أحدًا غيري.
وأخرج الفريابي، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر عن مجاهد مثله، قال: {وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذلك فأولئك هُمُ الفاسقون}: العاصون.
وأخرج عبد بن حميد عن أبي العالية قال: كفر بهذه النعمة، ليس الكفر بالله.
وأخرج عبد بن حميد عن قتادة {مُعْجِزِينَ فِي الأرض} قال: سابقين في الأرض. اهـ.

.قال سيد قطب في الآيات السابقة:

{لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (46)}.
بعد تلك الجولة الضخمة في مجالي النور، في مشاهد الكون الكبير.. يعود سياق السورة إلى موضوعها الأصيل. موضوع الآداب التي يربي عليها القرآن الجماعة المسلمة، لتتطهر قلوبها وتشرق، وتتصل بنور الله في السماوات والأرض.
ولقد تناول في الدرس الماضي حديث الرجال الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة. وحديث الذين كفروا وأعمالهم ومآلهم، وما هم فيه من ظلمات بعضها فوق بعض.
فالآن في هذا الدرس يتحدث عن المنافقين، الذين لا ينتفعون بآيات الله المبينات ولا يهتدون. فهم يظهرون الإسلام، ولكنهم لا يتأدبون بأدب المؤمنين في طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي الرضى بحكمه، والطمأنينة إليه. ويوازن بينهم وبين المؤمنين الصادقين في إيمانهم. أولئك الذين وعدهم الله الاستخلاف في الأرض، والتمكين في الدين، والأمن في المقام، جزاء لهم على أدبهم مع الله ورسوله. وطاعتهم لله ورسوله.. وذلك على الرغم من عداء الكافرين. وما الذين كفروا بمعجزين في الأرض ومأواهم النار وبئس المصير.
{لقد أنزلنا آيات مبينات والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم}.
فآيات الله مبينة كاشفة؛ تجلو نور الله، وتكشف عن ينابيع هداه. وتحدد الخير والشر، والطيب والخبيث. وتبين منهج الإسلام في الحياة كاملًا دقيقًا لا لبس فيه ولا غموض؛ وتحدد أحكام الله في الأرض بلا شبهة ولا إبهام. فإذا تحاكم الناس إليها فإنما يتحاكمون إلى شريعة واضحة مضبوطة، لا يخشى منها صاحب حق على حقه؛ ولا يلتبس فيها حق بباطل، ولا حلال بحرام.
{والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم}.. والمشيئة مطلقة لا يقيدها قيد. غير أن الله سبحانه قد جعل للهدى طريقًا، من وجه نفسه إليه وجد فيه هدى الله ونوره، فاتصل به، وسار على الدرب، حتى يصل بمشيئة الله ومن حاد عنه وأعرض فقد النور الهادي ولج في طريق الضلال. حسب مشيئة الله في الهدى والضلال.
ومع هذه الآيات المبينات يوجد ذلك الفريق من الناس. فريق المنافقين، الذين كانوا يظهرون الإسلام ولا يتأدبون بأدب الإسلام:
{ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون}.
إن الإيمان الصحيح متى استقر في القلب ظهرت آثاره في السلوك. والإسلام عقيدة متحركة، لا تطيق السلبية. فهي بمجرد تحققها في عالم الشعور تتحرك لتحقق مدلولها في الخارج؛ ولتترجم نفسها إلى حركة وإلى عمل في عالم الواقع.
ومنهج الإسلام الواضح في التربية يقوم على أساس تحويل الشعور الباطن بالعقيدة وآدابها إلى حركة سلوكية واقعية؛ وتحويل هذه الحركة إلى عادة ثابتة أو قانون. مع استحياء الدافع الشعوري الأول في كل حركة، لتبقى حية متصلة بالينبوع الأصيل.
وهؤلاء كانوا يقولون: {آمنا بالله وبالرسول وأطعنا}.. يقولونها بأفواههم، ولكن مدلولها لا يتحقق في سلوكهم. فيتولون ناكصين يكذبون بالأعمال ما قالوه باللسان: {وما أولئك بالمؤمنين} فالمؤمنون تصدق أفعالهم أقوالهم. والإيمان ليس لعبة يتلهى بها صاحبها؛ ثم يدعها ويمضي، إنما هو تكيف في النفس، وانطباع في القلب، وعمل في الواقع، ثم لا تملك النفس الرجوع عنه متى استقرت حقيقته في الضمير.
ولقد كان هؤلاء الذين يدعون الإيمان يخالفون مدلوله حين يدعون ليتحاكموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على شريعة الله التي جاء بها:
{وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين}.
فلقد كانوا يعلمون أن حكم الله ورسوله لا يحيد عن الحق، ولا ينحرف مع الهوى، ولا يتأثر بالمودة والشنآن. وهذا الفريق من الناس لا يريد الحق ولا يطيق العدل. ومن ثم كانوا يعرضون عن التحاكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويأبون أن يجيئوا إليه. فأما إذا كانوا أصحاب حق قضية فهم يسارعون إلى تحكيم رسول الله، راضين خاضعين، لأنهم واثقون أنه سيقضي لهم بحقهم، وفق شريعة الله، التي لا تظلم ولا تبخس الحقوق.
هذا الفريق الذي كان يدعي الإيمان، ثم يسلك هذا السلوك الملتوي، إنما هو نموذج للمنافقين في كل زمان ومكان. المنافقين الذين لا يجرؤون على الجهر بكلمة الكفر، فيتظاهرون بالإسلام. ولكنهم لا يرضون أن تقضي بينهم شريعة الله، ولا أن يحكم فيهم قانونه، فإذا دعوا إلى حكم الله ورسوله أبوا وأعرضوا وانتحلوا المعاذير {وما أولئك بالمؤمنين} فما يستقيم الإيمان وإباء حكم الله ورسوله. إلا أن تكون لهم مصلحة في أن يتحاكموا إلى شريعة الله أو يحكموا قانونه!
إن الرضى بحكم الله ورسوله هو دليل الإيمان الحق. وهو المظهر الذي ينبئ عن استقرار حقيقة الإيمان في القلب. وهو الأدب الواجب مع الله ومع رسول الله. وما يرفض حكم الله وحكم رسوله إلا سيِّئ الأدب معتم، لم يتأدب بأدب الإسلام، ولم يشرق قلبه بنور الإيمان.
ومن ثم يعقب على فعلتهم هذه بأسئلة تثبت مرض قلوبهم، وتتعجب من ريبتهم، وتستنكر تصرفهم الغريب:
{أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله}.
والسؤال الأول للإثبات. فمرض القلب جدير بأن ينشئ مثل هذا الأثر.
وما ينحرف الإنسان هذا الانحراف وهو سليم الفطرة. إنما هو المرض الذي تختل به فطرته عن استقامتها، فلا تتذوق حقيقة الإيمان، ولا تسير على نهجه القويم.
والسؤال الثاني للتعجب. فهل هم يشكون في حكم الله وهم يزعمون الإيمان؟ هل هم يشكون في مجيئه من عند الله؟ أو هم يشكون في صلاحيته لإقامة العدل؟ على كلتا الحالتين فهذا ليس طريق المؤمنين!
والسؤال الثالث للاستنكار والتعجب من أمرهم الغريب. فهل هم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله؟ وإنه لعجيب أن يقوم مثل هذا الخوف في نفس إنسان. فالله خالق الجميع ورب الجميع. فكيف يحيف في حكمه على أحد من خلقه لحساب أحد من خلقه؟
إن حكم الله هو الحكم الوحيد المبرأ من مظنة الحيف. لأن الله هو العادل الذي لا يظلم أحدًا. وكل خلقه أمامه سواء. فلا يظلم أحدًا منهم لمصلحة أحد. وكل حكم غير حكمه هو مظنة الحيف. فالبشر لا يملكون أنفسهم وهم يشرعون ويحكمون أن يميلوا إلى مصالحهم. أفرادًا كانوا أم طبقة أم دولة.
وحين يشرع فرد ويحكم فلابد أن يلحظ في التشريع حماية نفسه وحماية مصالحه. وكذلك حين تشرع طبقة لطبقة، وحين تشرع دولة لدولة. أو كتلة من الدول لكتلة.. فأما حين يشرع الله فلا حماية ولا مصلحة. إنما هي العدالة المطلقة، التي لا يطيقها تشريع غير تشريع الله، ولا يحققها حكم غير حكمه.